ثقافيات

فرصة للإبداع في زمن الكورونا

صاحبة راوية: في حضرة الشمس الجليلة

فاكر سبيل
***
كتبت : ريم شعبان- تورونتو

طالما تمنيت أن يتوقف كل شيء عن العمل كي أحظى على وقت كافٍ للكتابة. أرمي باللوم على المسؤوليات كلها، من العمل، للبيت، للنشاطات والواجبات الاجتماعية، التي تقف بيني وبين وحدة الانغماس بها. الآن جاءتني الفرصة، على طبق من وباء عالمي.
لدى عودتي من إجازة مليئة بالمفاجآت، كان يفترض لي فيها أن أوقع اصدار روايتي الأولى، وحالَ اعلان أغلاق مطار القاهرة المفاجئ واضطراري اقتطاعها، تحقق ذلك، يطلب مني موظف الجوازات بمطار تورونتو الكندي، التزام المنزل لأربعة عشر يوما، أتأكد فيها من خلو جسدي من فيروس الكورونا، فمثله لا يمكنني الانفلات منه بالتجوال بخمسة مطارات بيومين. أستقبل دعوته بفرح أخشى انكشافه أمام أحد، فالعزلة هي كل ما أحلم به، ببيتي، بغرفة الجلوس المطلة على حديقتي الطيبة الغامرة السكون والجمال، تظللها شجرة (الميبل ليف) العملاقة العارية من الأوراق الآن، والسخية الحضور والبهاء. سكتت الأصوات جميعها ولم يبقَ إلا صوت الموسيقى المندلعة من الحديقة والمندمجة مع الأوركسترا الخارجة من سماعات أذني…. ولّت نداءات الواجب والساعة التي لا تكفئ تذكر بها، حتى الخوف من العازة، لا تحجنا الدولة الكندية له، فهناك الكثير من الإعانات التي أحافونا بها ولا يمكن لأحد التشّكي بعدها. سيبقى دوّي المرض أو الموت حاضرا، ولا أدري لماذا لا أخاف أيهما. كأني بمنأى عن الموت نفسه وبداخلي سلم حقيقي يقّربني منه وكأني أعيشه بركن ما بداخلي ولا أهابه.
سأصحو غدا عازمة على الاستمتاع بغموض كل ما يحدث وسيحدث وبتكّشف الحياة أمامي، مشهدا وراء الآخر، متحررة من حواراتي السقيمة معها، التي لم تقدم لي شيئا إلا الانهاك، للحد الذي أوصلني الآن إلى ألا أفعل شيئا سوى الاستسلام!. أبتسم بأعمق أعماقي من القادم. لا أدري من أين آتي بقناعة، أن عدم الفهم هذا، أو اللا يقين، والبلاهة بمواجهة ما يحدث، هي الأرضية التي سأخبر بها أعمق تجاربي.
أستقبل كل المستجدات في العالم من داخل فقاعتي البلاستيكية التي حشرت نفسي داخلها وسددت الفتحة الوحيدة بيني وبينه. منذ الحرب السورية والأخبار لا تعنيني، لغيتها من يومي، فإلى جانب أني أرتاب من كل نبأ منها، تجافيها كل خلية لم تنسى وجعها فيني. لذلك فأخبار الفيروس اللعين لا أتابعها ولا أءخذ كل الرسائل الكثيرة التي يتداولها الناس محمل الجد. لا يقلقني هم الوباء وكأني أقطن بكوكب آخر. بداخلي ميل نحو نظريات المؤامرة كلها، وأهرب معها من مواجهة حقيقة الكارثة الإنسانية المقبلة علينا بفم فاغر يود ابتلاعنا.
الكثيرون يرتابون ويخافون وأنا بسكينة بلهاء، يضحكها أي شيئ، تنام ملأ جفونها، ولا يهمها إلا التعلم وسماع ما يقوله جماعتها المتنورين، ثم مراقبة تغير الناس من حولها وفرحهم الطفولي، كما رهبتهم، بالوجود مع أنفسهم قليلا، وإن مجبرين. أدرك الرهبة من مواجهة الذات بعد طول غياب، ثم التخبط بما علينا فعله أمام إملاءات منها لا نستوعبها. كما أدرك رهبة السكون والاعتقاد بسلام الصخب والفوضى. ربما يجبرنا العزل على تجربة فرح اللاشيء، والوعي أخيرا على وهم فرح العدو العبثي الذي كنا نحيا فيه.
ما زالت حقيقة ارتباط أحدنا بالآخر تبدع بابهاري، فبو عزيز بتونس بلحظة يأس إنساني من الظلم، يحرق نفسه، فيحترق العالم العربي من بعده ولعقد ممتد من الزمان، ووجبة صينية عجيبة يتناولها شخص بالصين تجبرنا على الانعزال عن الحياة لعد أشهر لا نعرف لها نهاية، وتبعات كل ذلك النفسية والاقتصادية والجسدية، يشبه بعضه على الناس بكل مكان، وحين يلفظ رجل أسود بسيط أنفاسه تحت نعل شرطي أميركي، يردد العالم بأسره، كلماته قبل موته، وكأنها تعويذة تفتح أبواب الظلم المكبوت على اختلافه وتخرجه من قمقمه، مارد .
أشعر بعد مضي بعض الوقت بأنه لا قوة لفيروس الكورونا حقا وبأن القوة الفعلية هي لفيروس الخوف وحده. الوقوف وجها لوجه أمام هشاشتنا قد يكسرنا ويجعلنا ضعفاء بمواجهته. ربما يمعن معظمنا بالعاصفة ولا بما سيحدث لنا حين نخوضها ونخرج منها بأقل قدر من الخسائر. أود أن أحيد عن درب الخوف وأركز على مظاهر التعاون الذي يجمعنا بمواجهتها، بالأعمال المقبلة الجديدة التي ستنشأ بعدها وبسببها، بالعلاقات الجديدة المخلوقة خلالها وبموتها، بانسحاب الغياب وتوهج الحضور، بتطور الوعي …
أنها فرصة نادرة قد لا تأتي أبدا، بإعادة تشغيل الحياة، كما نفعل حين نعيد تشغيل حواسبنا، ولا بأس باحتمالية تلاشي بعضا من ذواكرنا. يصعب علي تخيل ما سيكون عليه واقعنا القادم، لكن يؤسفني تصور عصر بلا عناق وبلا قبل، وبلا أيدٍ ممسوكة. يتنافس الكل بتصوراته وأجدني أركن إلى فكرة أن الفيروس سيرحل بيوم كما أتى، وسيعود كل شيئ إلى حال آخر، أفضل بكثير من النواح، عن الذي مضى. لم أكتب بالعزلة أكثر مما كتبت وأنا ألهث من العدو بكل مكان. تابعت بكتابة رواية في حب الذات، لا يمكنني تقييم ما كتبته فيها، لكني مع ذلك، أرفل بالامتنان.

أردد في صباح كل يوم، *صلاة أرتحت إلى صداها بنفسي؛
أحب مشاعر صفو ذهني وراحته
أحب مشاعر الامتنان بداخلي مهما حصل
أحب وعي بما يحدث بداخلي
أحب عظمة الكون المتجلية كل يوم أمام ناظري
أحب معرفتي بأنه يمكنني الدخول إلى عبقرية الكون اللا نهائية
ممتنة للوجود ببهاء هذا الفضاء الواقعي الآن
ممتنة للأفكار المتولدة بداخلي
ممتنة لقوة اندفاع هذه الأفكار
أحب بأني أشارك الكثيرين أفكارهم ولست وحدي
أحب اعتقادي بأني متصلة بالنور الكلي بداخلي
أحب أني أقّدر قيمة وجودي

*صلاة مقتبسة من الوسيطة شيلي يونغ بمناسبة الوباء العالمي/ مارس 2020
***
هذا وقد صدرت عن مكتبة دار العين – القاهرة رواية في حضرة الشمس الجليلة – مارس 2020
والتي تأخر توقيعها وتوزيعها بسبب جائحة كوفيد 19.

وتالياً مقطعاً من رواية ريــــم شـــــعبـان

…. “أتذكر حين قلت لي، أن أصابع قدميك تقع بالحب أيضًا حين تكون عاشقًا”
“لا، لا أذكر”
كنت دوما أود أن أسألك، هل آلمتك يومًا بسببي، هل تاهوا بغابات الوحشة التي أعيش بها منذ زمن بعيد، وحدي؟
“بت أمشي بين أمواج الناس الكثيفة بالمركز التجاري الضخم، بطريقي لعملي، أتبادل النظر مع المارة، يغدون ويجيئون، وبوهلة أعلو عن الأرض قليلًا، وأدلف من الباب الأثيري غير الموصد أبدًا، تصفعني ذرات هواء مغاير عن ذلك الذي كان يلامس وجهي منذ قليل، تملأني فرحة غامرة لا وزن لها، تعي كل شيء وترضى به، ولم أزل أنظر بأعين المارة، أقرأها على عجل، من بُعد آخر لا يُعنى بتفاصيل كثيرة، يرى حقيقتها مجردة لا تحسب حساب أحد، تستقبل مني حبًا، يخرج من مسامي سخيًا”. أقول لتميم بيوم من الأيام.
“أتدرين ما اسم هذا المقام عند الصوفيين؟” يقول تميم.
“ما اسمه؟” أسأله بفرح.
يرد بصوته الذي لم أسمعه منذ أشهر: “مقام الفناء، آخر مقام عند الصوفيين، الموت قبل الموت. حين أتراءى لكِ بكل مكان، أخرج من المرايا، أجلس مقابلًا لكِ وأنتِ تلبسين، أظهر على عتبة كل باب تفتحين، أمشي معكِ بكل الشوارع، أتذوق معكِ طعامك، أتلقف معكِ الكلام يتساقط من مخيلتك على الورق، دائمًا آتي معك، ثم أجثو جوارك حين تنامين، هذا أيضًا فناء، وإن كان آخر”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
إغلاق
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock