بذكرى استشهاده : فضاءات الكاريكاتور السياسي وتشكيل الهوية الجمعية: ناجي العلي نموذجًا
عن موقع : صحيفة حبر الإليكترونية .
كتبت : سنابل عبد الرحمن – ميسيساغا . اونتاريو
حدثني أبي في صغري عن الأسطورة الحديثة: حنظلة لن يرينا وجهه إلا عندما تتحرر فلسطين. شعرت وقتها بغصة في حلقي بسبب الفضاء الخالي الذي يرسل حنظلة نظره نحوه والذي كان يذكرني بمكان أعرفه ولا أعرفه. عشرون سنة بعد ذلك، أنظر مجددًا إلى ما ينظر إليه حنظلة، إلى ذلك الفضاء الأبيض أحيانًا والأسود أحيانًا أخرى والمجرد دائمًا من أي معلم أو تفصيل. أتساءل عما يعني ذلك ولماذا يوظف العلي هذا الفراغ في جميع أعماله تقريبًا؟
تمثيل المكان وإعادة خلقه
يختلف الكاريكاتور السياسي عن باقي الأوساط التعبيرية بكونه وسطًا هجينًا يدمج بين السياقين الأيقوني والكلامي؛ بين النص والرسم.[1] وهو لا يقدم الوقائع السياسية فحسب وإنما يقدم رأيًا فيها وتقييمًا لها كذلك، خالقًا بذلك تواصلًا بين الكاريكاتور ومن يراه.[2] لذلك، بسبب تقديمه للتعليقات السياسية والتراكيب الاجتماعية في قالب فني، يستدعي الكاريكاتور السياسي قراءة أقرب، تتنبه إلى تعدد طبقاته التعبيرية وإلى أن رمزيته تعكس علاقة الرسام بالمجتمع الموصوف.[3] فضلًا عن ذلك، فالكاريكاتور السياسي ردّ فعل أو استجابة للوقائع السياسية، من خطابات ومناظرات وأحداث، مما يجعله يمتاز ببناء معقد وجوهر مستجيب للوقائع.[4]
للكاريكاتور القدرة على تحقيق التجريد المناطقي، مما يمكننا من قراءته بطريقة استنباطية عميقة، تفسح مجالًا للنقل المكاني.[5] فإذا كان العالم مقسمًا إلى مناطق جغرافية وسياسية- ثقافية واقتصادية وإثنيةـ قومية وإقليمية من خلال حدود مادية،[6] فإن الكاريكاتور السياسي يحقق التجريد المناطقي من خلال نقل المنطقة (أو المساحة) إلى العمل الفني نفسه، أي تجريد المؤشرات الثقافية والرؤيات العالمية من سياقها (المناطقي/المادي) ودمجها في مساحة أخرى تتعدى الحدود المادية،[7] محققًا بذلك النقل المكاني ومعه نقل المعاني والأشكال والفضاءات.[8] إلا أن التجريد المناطقي لا يطرأ من دون عملية إعادة تشكيل مناطقي للتعويض عن حالة الانسلاخ الأصلي (من المنطقة).[9] مما يعني، أنه مقابل كل حالة انسلاخ (أو تهجير) على أرض الواقع، هنالك رد فعل مضاد يحاول استرجاع الحالة الأصلية (قبل الانسلاخ). لذا، ففي كل محاولة تمثيل للواقع، هنالك إعادة تمثيل للواقع نفسه.[10]
محاولتنا لتطبيق هذه الاختزالات الفلسفية على سياق عملي ستفضي إلى أن مع كل عملية تهجير من البلد (أو المنطقة) تطرأ عملية مضادة تحاول من خلال الرموز التعبير عن الانسلاخ عن المكان (وعكسه) في سياق غير مادي أو جغرافي، يتمثل هنا في الكاريكاتور السياسي.
«قصة مدينتين»
في ورقته عن الفوتوغرافيا وصورة المدينة الخالية، يقدم الباحث ستيفين جيكوبز، مفهوم «قصة مدينتين» الذي يشير إلى طريقتيْ تقديم المدينة في السياق الفوتوغرافي. فإحدى المدينتين ديناميكية تضج بالناس والطاقة، أما الأخرى، فمهجورة ومجردة تمامًا من الأثر الإنساني، لا يملأها شيء إلا الفراغ.[11] ينبهنا جيكوبز إلى أن صور هذه المدن «الخالية» تندرج في معظمها تحت ثيمة فوتوغرافيا الحرب،[12] التي تقدم المدينة كنتاج لكوارث من فعل البشر (كالحرب والاحتلال). يحاجج جيكوبز أن «تفضيل الفراغ (في هذه الصور) لا يكون لغرض توثيقي أو تأريخ عمراني، بل كمحاولة لتقديم الدمار كحكاية رمزية للتوتر الموجود بين الأبدية والعبور، وبين العزلة والرباط التاريخي».[13] وبذلك، تكتسب مساحات المدن الخالية معان رمزية.[14] يضيف جيكوبز أن هذه المساحات الخالية في المدينة «مهددة وتوضح أن ما يحدث في الشارع غير قابل للتكهن أو المعرفة الحقيقية».[15] وبناءً على ذلك، يمكن أن نستشف أن المدن التي تضج بالناس والعمارة هي مدن «آمنة» بسبب قدرتنا على تكهن الأحداث فيها ومعنى المساحات المختزلة فيها؛ على عكس مدن الحرب التي يطغى عليها الخواء المهدد.
إذا ما طبقنا مفهوم «قصة مدينتين» على الأعمال الكاريكاتورية العربية، فربما يمكننا تقسيم «حيز» الكاريكاتور إلى كوميدي (اجتماعي) ودرامي (سياسي). فالكاريكاتور الكوميدي معني بمواقف أخف وطأة نسبيًا، يمر بها المواطنون يوميًا بشكل اعتيادي، ولذلك تنبع حاجة لنقل خلفية المشهد، وبالأخص المكان، إلى المتفاعلين مع الكاريكاتور حتى يكون التوصيف الاجتماعي دقيقًا، ويستطيع سكان المكان المشار إليه التواصل معه. لذا، نلحظ أن الحيز الكوميدي في الكاريكاتور (الاجتماعي) ممتلئ بالتفاصيل الصغيرة التي تلمح إلى الشخصيات والمكان الذي يسكنونه. فإن نظرنا في أعمال عماد حجاج الذي يقدم شخصية أبو محجوب الأردنية في صراعاتها اليومية، نجد أن الفنان قد اهتم بشدة برسم التفاصيل المحيطة بالشخصيات، كما نرى مثلًا في كاريكاتور «تقدير جيد» أدناه، الذي يرينا أدق تفاصيل المكان بمعالمه الجغرافية والمعمارية والسكان وحتى آثار استهلاكهم على المكان. وكأن حجاج يقول لنا هنا: وقع هذا المشهد في هذا المكان بالضبط، الأمر الذي يتناسب تمامًا مع طبيعة المفاهيم الاجتماعية بفروقها الدقيقة التي تحاول رسوماته تقديمها في قالب كوميدي «خفيف».
إلا أن فضاء ناجي العلي مغاير تمامًا، فهو بتجريده لمعالم المكان يضفي على الكاريكاتير طابعًا دراميًا شديد الجدية، حيث تهيم شخصياته في مدينة الحرب، فلا نقدر على الاستدلال على موقعها. نرى في الكاريكاتور أدناه بعنوان «معايدة» مشهدًا لأم فلسطينية تطلب من زوجها إحضار يافطات المعايدة حتى تغطي عري أطفالها. ونرى أن زوجها نفسه بالكاد مستور بيافطات شعاراتية تذكر بالحاجة إلى النضال ضد الإمبريالية، وأخرى بالحاجة للتضامن، وأخرى تنادي بإسقاط كامب ديفيد، وغيرها الكثير من الشعارات التي انتهى بها المطاف كخرق. وبالطبع، فالشخصية الأنثوية هنا، كما في معظم أعمال الكاريكاتور السياسي العربي، تشير إلى ثيمات مثل الوطن، الثورة، والأم.[16] لكن بالرغم من إشارة الأم إلى الشارع الذي تلجأ العائلة إلى يافطاته، إلا أننا لا نرى أي معلم يدل على وجود الشارع أو غيره من تضاريس المدينة. فنرى العائلة مجردةً تمامًا من المكان، تقبع في فضاء خالٍ يستحيل الاستدلال عليه.
تُستخدم المدينة الخالية (الموحى إلى وجودها هنا من خلال الإشارة للشارع حتى إن لم يُر) عادة من قبل الكتاب والفنانين لتوصيف جو من التغريب والعزلة،[17] وهو الشعور الذي يحققه هذا الرسم بدقة. فيجد الناظر نفسه يتساءل: أين تجلس هذه العائلة الفلسطينية المهجرة؟ في أي مدينة في أي بلد؟ على ناصية أي شارع؟ في أي وقت في اليوم؟ وكم هي قريبة من مسكنها؟ وما هو هذا المسكن؟ هل هو خيمة صنعت من يافطات الأونروا أم شرائح زينكو مرصوفة بقلقلة؟ لا نعرف. أحادية اللون (أبيض/أسود) التي يوظفها ناجي العلي في جميع أعماله تؤجج هذا الشعور بعدم القدرة على استدلال المكان، لأنها تزيد من تجريد الدلالات على المكان بتحييد الألوان، مما يزيد حدة الفراغ.
مقاربات لملء الخواء
يعرض لنا الباحث جون بالداتشينو في ورقته عن التعليم الفني نهج «الحجرة الخالية» في قراءة الأعمال الفنية. حيث يفترض هذا النهج وجود علاقة ديالكتيكية بين الشكل والمعنى؛ فمثل النظر في حجرة خالية، نوقن «أن وراء الخواء وجود سابق لآدميين وحاجاتهم».[18] بناءً على هذا النهج، يفترض بالداتشينو أن فراغ الحجرة؛ أولًا، يجب أن يكون مسكونًا؛ وثانيًا، أن الخواء حالة مؤقتة تستدعي الوجود الفعلي فيها الذي هو نتاج عملية تخيلية (تخيل الوجود الفعلي).[19] لذا، بالنسبة لبالداتشينو «فإن الإنسان يشعر، في حضرة هذا الخواء، بالحاجة إلى أنسنة الحجرة وملء خوائها بالمعنى حتى يستطيع امتلاكها، مما يعكس افتراضًا أبسط وهو أن عملية الأنسنة تستدعي، دائمًا، التدخل حيث أن الإنسان عليه دائمًا احتلال (المكان) للتحكم بالظروف الراهنة».[20]
بناءً على هذه النظرية التي تعتبر الخواء حيزًا سلبيًا، يبني بالداتشينو محاججته بأنه ستنبع رغبة بملء هذا الخواء من خلال إحدى طريقتين: إما أن نكون نوستالجيين تجاه الحجرة الخالية وأن نملأ خواءها بالذاكرة، أو أن نوظف مقاربة بنيوية تجاهها من خلال تحويل سلبيتها إلى إيجابية بوضع بشر وحاجياتهم ومعانيهم في هذا الفراغ عن طريق هيئة إنسانية من الاستعمار.[21] لكن بالداتشينو ينبهنا أن المقاربة الأولى (النوستالجيّة) تفترض حالة سابقة من عدم الخواء، وأنه في انتهاجها عملية استعادية للمكان. فلكي يكون هناك معنى للفراغ، علينا أن نفترض وجودًا سابقًا في المكان الخالي قبل خلوه.[22] أما المقاربة البنيوية، فهي، كما يوضح بالداتشينو، تستوجب وجود حاجة لخلق المعنى عوضًا عن ترك الفراغ هائمًا.[23] «لذلك، فإن خواء الحجرة يحتم وجودًا أو احتلالًا إنسانيًا، وأن أي تخيل لهذا الوجود يجب أن يكون ذا بعد مكاني، وأن يكون مقيّدًا ماديًا بإحداثيات المكان نفسه».[24] أي أن سلبية الخواء يجب أن تُصلَّحْ، والجهل بالخواء يجب أن يستبدل بمعرفة مرتبطة بالمكان.[25]
تعبر رسومات ناجي العلي عن موقف سياسي واضح جدًا بشأن الهوية الفلسطينية وأرض فلسطين الفعلية، وهي المواقف نفسها التي تبناها الرسام بشكل شخصي أيضًا وعبر عنها. إذن، فأي محاولة لملء الفضاء السلبي في كاريكاتوره ستتضمن تلقيح الفراغ بهذه الهوية السياسية، خاصة وأن عملية صياغة الهوية، بحسب زيجمونت باومان، تشمل جانبًا فيتيشيًا بحيث «نستخرج من النسيج الكثيف للعناصر المتشابكة شخوصًا ورموزًا ونشاطات معينة، أو كيانات يمكن توظيفها كوسائط نعلن من خلالها: «هذه هي ماهيتنا»».[26] إذن، فإن عملية خلق الهوية أو تحديثها، خاصة إذا ما طبقت على الفراغ، ليست عملية عبثية، بل هي عملية استخراج دقيقة لعناصر مهمة لدى مجموعة من الناس المتفقين من حيث المبدأ على معاني هذه العناصر ورمزيتها. فاستغلال فضاء الحجرة الخالية في عمل ينضح بالمواقف السياسية لخلق معنى هوياتي هو توظيف لكلا منهجي الحجرة الخالية لملء الفراغ: فهناك تفعيل للنوستالجيا أو العملية الاستعادية من خلال تذكر فلسطين والتذكير بها (كمكان بعد تهجير الناس منه) في الكاريكاتور، مما يخلق نوعًا من الذاكرة الجمعية للفلسطينية. ولكن، بشكل مواز، هناك أيضًا عملية ملء للفراغ برموز معينة مترابطة تاريخيًا ومعرّفة سلفًا في الذاكرة الجمعية للفلسطينيين. الفلسطيني، إذن، في فضاء ناجي العلي، خالق وليس مجرد نتاج عارض لحوادث تاريخية أو ضحية الطرد من المكان؛ إذ أنه يخلق، لا يزال، المعنى ويصدره للذاكرة الجمعية لمن يشاركونه المكان ماديًا وميتافيزيقيًا.
نرى هذه المحاولات لتفعيل عمليتي تلقيح الفراغ في الكاريكاتور أعلاه. أول ما نلحظه في هذه الرسمة هو تعدد الرموز الفلسطينية التي يوظفها الفنان فيها، مثل الثوب الفلسطيني الذي تظهر المرأة فيه وشالها الذي يغطي رأسها. نلحظ أيضًا المفتاح المعلق على صدرها، وهو عنصر ذو رمزية شهيرة مرتبطة بأمل الرجوع إلى فلسطين. إذن، يوظف هذا الكاريكاتور رمز المفتاح المعلق هنا للإيماء نحو المكان الذي سلخ عنه من يحملون هذه الذاكرة الجمعية. ففي هذا الرمز إشارة للمكان المادي وبذلك يمكننا هذا العمل من ممارسة النوستالجيا نحو المكان المنهوب من خلال ذاكرتنا الجمعية. إننا نملأ الفراغ بهذا المكان لأننا نستطيع تقدير ماهيته بسبب الرموز الواضحة التي تركت في الرسمة نفسها. في وضع الشخصيات في هذا الفراغ شبه المعدم من المعالم أيضًا توظيف للمقاربة الثانية وهي البنيوية، حيث يجعل العلي الشعب الفلسطيني (المتمثل هنا بالشخصيات الفلسطينية) يحتل المكان أو الفراغ الأسود. فبالرغم من البؤس والمعاناة المتجليين هنا، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر وجود الشخصيات في هذا الفراغ أو احتلالهم للمكان. كما أن هذه الرسمة تمثل أيضًا تحقيقًا للنقل المكاني حيث أن المكان الفلسطيني الحقيقي (أي أرض فلسطين المادية) قد نقلت إلى مساحة أخرى للتعبير عنها والمتمثلة بالرسمة.
إلا أن بالداتشينو يعترض على المقاربة البنيوية للحجرة الخالية، ليس لأن هذه المقاربة غير معنية بتفسير غياب المعرفة التي سرقت تاريخيًا وسيكولوجيًا وسياسيًا وجماليًا، ولكن لأن المقاربة البنيوية للفراغ تطلب خلق معرفة جديدة لهذا الفراغ؛ فلا تفسح المجال لفهم ومعرفة الفراغ على ماهيته، ولا يستطيع من يتبنى هذه المقاربة أن يمارس اللا-هوية فكريًا وفعليًا.[27] بسبب الحاجة لخلق المعنى، يسترسل بالداتشينو بالقول إن هذه المقاربة تحتم علينا أن ننتظر أحدًا ما لملء فراغ المعرفة هذا.[28] إذن، يبدو أن اعتراض الباحث يكمن في عدم تقبله لنهج يتعدى على الفردانية ويدعو لعمل جماعي لإعادة خلق الهوية من خلال الذاكرة الجمعية لملء الفراغ، كما يفعل العلي في أعماله الكاريكاتورية. هل يكون هذا موقفًا تفضيليًا لمفكر غربي يتمتع بمزايا المواطنة الآمنة التي لا يستطيع الكثير من الفلسطينيين حتى الحلم بها؟
نوستالجيا المكان وحداثيته
تعمق الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار في فلسفة العلوم وبالأخص الظاهراتية قبل اتجاهه لدراسة الخيال الشعري ونشره كتبًا في هذا المجال، منها كتاب «جماليات المكان» الذي كان قد ترجمه إلى العربية غالب هلسا. أعمال باشلار «تدعونا لتضمين المخيلة الموضوعية للأحلام والهوس والفانتازيات في تحليل الفضاءات الداخلية»،[29] إذ تعنى أعمال باشلار بظاهرية المخيلة فضلًا عن النظرية المعمارية.[30] من هنا، نجد تقاطعًا واضحًا بين المكان المادي والمكان المتخيل أو الميتافيزيقي، كما هو الحال في أعمال العلي، كونها تندرج في سياق الخطاب السياسي في قالب فني لتعكس هوية جمعية. البيت (الفعلي، أي العمران)، بالنسبة لباشلار، له غرض مزدوج: «فهو يقدم مأوى ماديًا وسيكولوجيًا لمخيلة الساكن، ولكن في الوقت نفسه، يصبح المكان ذاته عنصرًا مهمًا من المخيلة نفسها».[31] فبالنسبة لباشلار، تكمن أهمية البيت الحميمي في كونه المكان الذي يتيح المجال لممارسة السعادة الشعرية في الذهن، تمامًا كما تطلب التجارب العلمية مختبرات محددة.[32] وبذلك، تنشأ علاقة تبادلية بين المكان الفعلي والمخيلة، إذ أن المكان الفعلي يفعّل المخيلة، ويعاد خلقه فيها ومن خلالها.[33] لذا، يرى باشلار أن وجود «الآخر» في المكان الحميمي وجود مُهدد ويقلق من السعادة الشعرية.[34] فماذا يحدث إذن مخيلة الإنسان عندما يهجر من البيت، أي المكان المادي؟ نجد تجليات ذلك في الرسمة التالية للعلي. فالفلسطيني هنا يحاول أن يحافظ على «السعادة الشعرية» المتجذرة في المكان الفلسطيني من خلال طرد العناصر التي تهدد وجود المكان نفسه. ونرى أنه لتحقيق شعرية المكان الفلسطيني هذه، يجب أن تتم عملية أشد عنفًا (لكن لا تقل أهمية وأحقية) وهي محاربة الآخر الذي يهدد المكانين المادي والشعري.
إلا أن الكاتب كريس بينت، في مقاله عن جماليات المكان عند باشلار يعترض على نهج باشلار الذي يصفه بالمعادي للحداثة والقريوي، إذ أنه يرى أن صور باشلار عن العيش من خلال التجوال في غياهب المكان وجماليته «بدائية»،[35] وأن بيت الحلم الذي تُمارس فيه شعرية المكان فُقدَ في البناء المديني الهائل ما بعد الحرب العالمية الثانية.[36] ينتقد بينت بيت الحلم «لأن هذه النظرة المعادية للحداثة تبين أن «مساحة السعادة» لدى باشلار هي فعلًا مجرد مساحة للنوستالجيا بما أنها تثير في النفس المساحة الحميمية التي فقدت للأبد»،[37] وذلك لأنها لا تقدر، بالنسبة لبينت، على السكن الحداثي ولا تحاول مجابهة التعقيدات التي تنشأ من العيش فيه.[38] لذا، فإن مساحة الحلم لا تتناسب مع الإنسان الحديث لأن الأخير «فاعل وصحي ومشغول ومهتم بالمستقبل، لا الماضي».[39] لذا، يصبح التفكير في المكان بأثر رجعي «مستحيلًا، وهميًا، ومعاديًا للحداثة ويخاطر بالتخلي عن المشروع التحريري للعمارة الحديثة». بمعنى آخر، يرى بينت أن النوستالجيا أو الحنين إلى المكان المفقود هو نهج هروبي. لذا، يدعو لخلق نهج حداثي لشعرية المكان.
النوستالجيا، إذن، واستغلال ذاكرتنا الجمعية لملء الفراغ للنفاذ إلى هويتنا، بالنسبة لكثير من كبار المفكرين الغربيين ليست فقط عملية حالمة ومتنكرة لمتطلبات الحياة الحديثة، ولكنها أيضًا بدائية ومعادية للحداثة السامية. والتشبث بالتاريخ ورفض نسيانه والإصرار على إقحامه في كل فراغ يضعه أمامنا ناجي العلي وآخرون غيره. هي، بالنسبة لهؤلاء، عملية عقيمة رجعية ومعادية للتحرر.
إلا أنه بالنسبة للفلسطينيين، فإن الذاكرة الجمعية والنوستالجيا هي أقوى المحركات وأكثرها تحررية نحو تحديث هوية فلسطينية تعيد خلق التاريخ في إطار يتناسب مع المتطلبات الحداثية، وتضمن استمرار الوجود الفلسطيني حتى في الفضاءات الخالية وفي عقر العدم.