بيوم حار … ثرثرة فوق الثلج.
العنوان: ثرثرة فوق الثلج وروايات أخرى.
اللغة المستعملة اليوم: الفصيحة وبعض العامية.
نشاط ابو شلبك: لا عمل لديه فهو محبط من حال العرب.
المناسبة: وهل يحتاج المحبط إلى مناسبة كي يثرثر ؟
الزمان : الأول من تموز – يوليو
المكان: أراضي السكان الأصليين في شمال كندا.
كتب: محمد هارون
____________________________________________________
لم يجد صابر أبو شلبك أية غضاضة بأن يمكث بقية عمره عند الهنود الحمر في الشمال الكندي، وهذا ليس بالأمر الغريب… لماذا؟
لأنه وبشكل مباشر، مَلّ النفاق والكذب وقرف من طروحات “المتحمسون الأوغاد” حول تجاوز الإنقسامات وتحقيق الوحدة وبراءة الربيع العربي. كما انه محبط من نجاح القوى الخفية التحت بنفسجية من تحويل تناقض العرب الرئيس مع الكيان الصهيوني الى تناقض مع ( الكيان) الصفوي ورفع العديد من العدميين الإعلاميين أعلام صِفين وعلى صَفين في سورية والعراق ومحاولاتهم شق الصف بأمصار أخرى. كما انه ضاج من التكنولوجيا الحديثة لأنها قولبته وجعلت تواصله مع الآخرين يمر عبر الأسلاك والأمواج الجافة. وسبب آخر مهم جعله يقرر السفر في “موسم الهجرة إلى الشمال ” هو توفر حفل بربيكيو ليلي مادته الأساسية غزال أو طير أوسمكة، مما تيسر من صيد بري طازج شهي خال من المواد الحافظة والكيماوية. ويَعقب العشاء حفل سمر ورقص وغناء وطقاطيق وصاجات وطبول وما اشتاق له من ضجيج. صحيح ان معزوفاتهم بدون دوزان ولا دواوين ولا قوافي، ولكنها بريئة ونقية وخالية من المواد المثيرة الخليعة. سبب آخر هو ان هذه القبائل ليس لها هموم ومشاكل فلا أقساط ولا فواتير ولا روجرز يروّج عندهم، ولا طائفية ولا تطرف بديارهم، فلديهم القليل من الأوثان ومجموعة من الطواطم تكفيهم لعدة أجيال. وحتماً لا ملوك ولا أولياء للعهود عندهم ولا مكان يتصارع فيه نواب الشعب ويتبادلون فيه تقاذف الأحذية واللّكمات. لذلك لم يفكروا بالزعامة فمن يصحو باكراً يكون الزعيم ومن يأتي دوره بالحراسة يكون صاحب المبادرة ومن يتابع الصيد والقطاف بيديه هو صاحب القرار، فالكبير عندهم هو حامي القبيلة والساهر على راحة أفرادها، ومن يخون – وهذا المفهوم فهموه حديثا عند دخول المستعمرين لديارهم – فإنهم يسحلونه. ولكن ان أتاهم غازٍ أكلوه نياً فلا ينتظرون قدوم الشريف الأبيض ليعيد لهم حقوقهم فحريتم مقدسة. لذلك هم لا يعرفون الياقات والملابس الضيقة ولاينتظرون اية سلعة من الخارج، ولا يتابعون قرارت البنك الدولي ولا كيفية سداد الديون. كما ولا تعنيهم احتفالات الهيلوين لأن الرعب الحقيقي جايلهم مع قدوم العنصر الأبيض. واختيارات الألوان ومزجها وابداعهم في صناعة الأقنعة والزخرفة بالريش هي من صلب تخصهصم.
ولكن أهم ما دفع أبو شلبك لإتخاذ “القرار الصعب ” هو تمتمع الهنود الحمر بميزة
!! ” أن “على راسهم ريشة
والسبب المخفي والذي لم يقله أبو شلبك لِ” أولاد حارتنا” فهو الشعور بالندم الشديد لكونه مساهم ولو بدرجة محدودة بالسيطرة على أراضي الأنويت والميتيس سكان الأرض الأصليين وهو الفلسطيني المحتله أراضيه، يأتي ليساهم باحتلال أراضي الآخرين …
أية صفاقة ووقاحة هذه!!
عندما وصل أبوشلبك إلى مطار إيكولت في مقاطعة ننافت الكندية الشمالية، وذلك بأوائل الليل، استأجر عربة تجرها الكلاب وتزحلق طويلاً في “الليلة الموعودة” المظلمة، وخطر بباله ساعتئذ “قناديل الجليل” لتنير له الطريق وتسليه، وتمنى لو كانت معه الفرس البيضاء ليركبها بدل هذه الكلاب المسترخية والكسولة والتي كانت تجره مكرهة لشعورها بغرابة الزبون الراكب. وحتى يبدد الخوف الذي بدأ يظهر ليس باصطكاك اسنانه فحسب بل وبارتعاد فرائضه، بدأ يغني “يا مسافر وحدك وفايتني ليه تبعد عني وتفوتني” لم تنجح هذه الأغنية الرومانسية والرتيبة من تخيفض السرعة القصوى لنبضات قلبه، لذلك بدأ بأغنية حماسية شعبية “تيررش تيررش…يا بو الشويره الحمره وناشرها عالرمانه.. دق الماني دق الماني…طولك ياعود الريحان و العيون الغزلاني… دق الماني دق الماني …يا بو زُحليقه بيضه وسايقها عالثلجاتي دق الماني دق الماني …والله يا صابر بدك تصبر… هاظا ماهو دق الماني هاظا خازوق وأجاني”.
بدأ يحدث نفسه، فالنفس عزيزة.
ازداد رعباً ولم تنفعه أغاني الحياة الدنيا الفانية، وبدا يخشع ويذكر أدعية ويردد يا لطيف ويا حفيظ، ثم تلى آية الكرسي وسور المعوذات، الإخلاص والفلق والناس حتى هدأت نفسه. وبدأ الفجر بالشروق ووصل هناك في اليوم الثاني من رحلته ك(زائر الفجر).
قابل زعيم الهنود الحمر، وهو أول من قابل هناك، وكما هو معروف فان أول الصاحيين من النوم يعتبر هو الزعيم. سأله ابو شلبك السؤال التالي: هل تقبلون بي كمستوطن بأرضكم ؟ ضحك الزعيم بطريقة لم يألفها ابو شلبك وأجاب مستغرباً : لأول مرة عبر التاريخ يأتي مستعمر يطلب الإذن بالإستعمار!! … لماذا تطلب العيش عندنا وقد أعطاك البيض جنسيتهم وتصريحا بالإقامة في مرابعنا البيضاء ؟
أجاب أبو شلبك : “يا عمي بدك الصراحة وعلى بلاطة” أنا مُحرج منك ومن شعبك، وخجل من تصرفي بالمساهمة في محو ثقافتكم ووجودكم.
الزعيم : من اين أتيت لنا أصلاً ؟.
ابو شلبك: من فلسطين …هل سمعت بها ؟
بلع الزعيم ريقه واغرورقت عيناه بالدموع وقال: تعال يا صديقي سأساعدك في بناء مسكن لك… وفي المرة القادمة احضر معك قومك، وسأقوم بإجراء مجموعة من الإتصالات لأقيم لكم مخيما هنا سنسميه… مثلاً مخيم مومادي أو الأسكيمو.
أبو شلبك : من أين لك هذا الإهتمام والمعرفة بالفلسطينين …هل ما سمعته عن أصولكم الأندلسية صحيح …هل هو صحيح يا أخ العرب؟؟؟
الزعيم الهندي يعدّل الريش من على رأسه ويقوم بحركات غريبة تدلل على امتعاضه من سؤال أبي شلبك ثم يقول :
قصة شعبكم تشبه قصة شعبنا وما حدث معه …وهذا كلام شاعركم محمود درويش الذي قال : الفلسطينيون هم الهنود الحمر الجدد، وذلك بقصيدة خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض. وقد ساهم في ديوانه رأيت أحد عشر كوكباً بتغير الصورة النمطية المرسومة عنا ، حيث دأبت كتابات الفاتحين الأوائل وأذنابهم على رسم صورتنا وكأننا حيوانات متوحشية، وكما تعرف لم تتجاوز أفلام الكاوبوي هذه التصور المزيف.
أبو شلبك: وهل وصل درويش اليكم أيضاً؟؟
الهندي : نعم… وصلنا بحسه الكوني …وتقديراً لتضحيات شعبكم ولدرويش سأساعدكم بتواجد مؤقت لمخيم سيكون بعيدا عن التلوث والإستغلال ومنبعاً لثوار أنقياء فيما بعد.
أبو شلبك: هل تعني بحديثك هذا بأن موضوعنا سيطول؟
الزعيم الهندي: بأوضاعكم وطريقة عملكم الحالية، نعم الموضوع سيطول. لأنكم لا تتعلمون من تجاربكم ولا حتى من أساطيرنا.
أبو شلبك : لا أفهم!!
الزعيم الهندي : مؤخرا … تركتم صفد وغربها وركنتم بالصفر ….
– يخشع ويتلو….(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) …
– أبو شلبك مذهولاً….!!!
– الزعيم الهندي يعود للتنظير …وإذا بقيت حالة الركون والركود هذه، ستقوم دولة مستقلة للهنود الحمر وأنتم ما زلتم تنظرون وتنتظرون!!!
ابو شلبك: “يا وااارادي”… يا لطيف …ما العمل إذاً؟
أصوات الأقراط والخلاخل تداخلت مع صرخة ال”عَوْ” التي أطلقها الزعيم ثم أردف مزمجراً: إذا سألت كل شعبنا بكافة مكوناته… الأصنام والطواطم والنار والثلج والغزلان والدببه لن تجد إجابة.
أبو شلبك: أين أجد الإجابة اذاً ؟
الزعيم الهندي وقد انبلجت وجحظت عيناه من القهر : ما أنا متأكد منه… هو أن الشعب الفلسطيني بمعظمه مثقف وصاحب تجربة عميقة ومُرة .. لذلك لا يعجز أبداً عن الإجابة على سؤالك السخيف هذا…غادر الآن وإلا أكلتك نياً…هيا انقلع من وجهي.
انتهت.
***