لقاء العدد 143 مع السيدة الشاعرة ربا شعبان
***ربا شعبان : “القصيدة قدَر الشّعراء
نبحث عن حيوات أفضل وعن ميتات أجمل …”
حوار أجرته: حورية عبيدة
* شاعرة فلسطينيّة وطنها لا يغادرها كما لم تغادر المفاتِيح صدر جَدّتها
* الذّاكرة العربيّة طاعنة في الإحباط مطلّة على اللاشيء، متألّمة من سياط جلد الذّات
* “في مدينة الضّاد” حوّلتُ قواعد النحو لقصص مسرحية للطفل
________________
* قابلْتها حتىٰ قرأْتها؛ فألفيتها امرأةً مِن فرَحٍ ووجعٍ، طائر شِعر ثَمل؛ يرىٰ السّماء لا تتسع لمداه وأضيق مِن جناحيه،
” تكتبُ لأنّ حياةً واحدةً لا تكفي الشّعراء، تبحث عن حيوات أفضل؛ وميتات أجمل، ولا تجد أجمل مِن الموت شِعرًا؛ حيث القضاء والفضاء الأنيق، تهوَىٰ الغوص في النّفس البشريّة قائلةً:
“لن نخجل إذا نبتت عُشبةٌ برّيةٌ فوق يباس أرواحنا”.. لذا فالقصيدة قدَر الشّعراء، والإبداع أعظم فرَح يمنحه الإنسان لنفْسه، والشِّعر عزفٌ مِن الجِن؛ أو نوبة مِن الموسيقىٰ؛ وصوت الرُّوح والجَمال.
* “ربا سليم شعبان”.. فلسطينيّة الجنسيّة والهويّة، رغم ولادتها ونشأتها في سوريّا، إلا أنّ الوطن لم يغادرها كما لم تغادر مفاتِح الدّور صدر جَدّتها.
* أصدرت ديوان “صهيل الصّباح” وهي ما تزال في العشرينيات مِن عمرها، تلاه “سنخدع السّراب” الذي تراه مَسًّا مِن الشِّعر، وأخيرًا “سماءٌ أضيق مِن جناحين” طغتْ فيه النّصوص الوجدانيّة والإنسانيّة.
* للأطفال كتبَتْ مجموعتها القصصيّة “في مدينة الضّاد”؛ حولّتِ النّحو العربيّ لقصص مصورة تُحاكي خيال الطّفل؛ وتقرّب المفاهيم المجرّدة إلى محسوسة.. ترىٰ الحياة في أن نصادق ذواتنا ونتصالح معها، وأن نكون لحنًا متناغمًا مع سيمفونيّة الأشياء من حولنا؛ قبل أن ينطفئ المصباح المتوقّد في صدورنا ونُسلم أنفسنا للغفو الأبديّ.
* سألتها:
شاركتِ في مسابقة “أمير الشعراء” بدولة الإمارات في موسمه الثّاني 2008؛ لكنّ الحظ لم يحالفكِ باللقب؛ فما تعليلكِ ؟
– المشاركات الأدبيّة تشبه الارتطام بنَجمٍ هائلٍ؛ لأجل التّشظي واللمعان في فضاءاتٍ لا تنتهي.. تجربة المشاركة كانت مفيدة لي؛ خاصّة وأنّي قد ابتعدتُ فترة عن الإبداع الشِّعري وتوجهتُ للكتابة للطفل، لكنّ المسابقة زادت من إصراري على التّحدي؛ وأرىٰ المرأة جديرة بالفوز بلقب “أميرة الشّعراء”.. تتساوى تمامًا مع الرّجُل في الأحقيّة.
* للأطفال واللغة العربيّة خلاقٌ وفير في اهتمامك؛ فكيف كان ذلك ؟
– دارسةٌ أنا للغة العربيّة بجامعة “دمشق”، وأحببتُ أن أُقدّم قواعدها بطريقة مشوّقة لاطفالنا لأزيل الجفوة بينهما، فألّفتُ مجموعة قصصيّة مِن عناوينها تدركين فحواها؛ منها: “عودة الخبر”، “الفاعل البطل”، “الصّديقات النّاصبات”، “الجازمات السّاحرات”، “طيور العطف”.. وأعتقد أنّ قصصي حازت إعجاب الكبار والصّغار؛ لا سيّما بعد تجسيدها على مسرح الطّفل بطريقة مدهشة.
* لمحمود درويش نصيب مِن ديوانك الأخير؛ ليبقى دومًا أيقونة فلسطين والشِّعر العربيّ.
– درويش رُوح الإنسان الذي يقاوم الموت؛ الموت قهرًا وظلمًا وصمتًا وعجزًا وخوفًا، والذي يقول دومًا:
“يا أيها الموت انتظر…. سأكون يومًا ما أريد”.
أنا مثله لا أريد الموت، أريد أن أُبقىٰ في عروق أقلامي حبرًا وبحرًا وزرقة لا تنتهي.. لذا كتبتُ مرثيّة لشاعر لم يمت:
ذات النّشيد يعيدنا
ذات النّشيدْ يعيذنا..
فإذا دعونا نشرب الأشعار كي ننسى مواعيدًا سنخلفها
وترجع من جديدْ
يا سادتي ما مات شاعرنا
ولكن نام
هَدهَده مساء الحلم كي يصحو بنا
نبضًا يؤجّجه الوريدْ
“درويش” هو الذّاكرة؛ ذلك النّبض الذي استمر لعقود يسجل “أنا عربيّ”، هو النّظرة العميقة للقضيّة والوطن والحُب والحياة، وأنا أُردّد معه دومًا:
“لا أريد الموت ما دامت على الأرض قصائد
وعيون لا تنام
فإذا جاء ولن يأتي بإذن لن أعاند
بل سأرجوه لكي أرثي الختام
* الذّاكرة العربيّة كيف ننهض بها ؟ وهل للأدب دور في ذلك ؟
– الذّاكرة العربيّة طاعنة في الإحباط، مطلّة على اللاشيء، متألّمة من سياط جلد الذّات بدءًا من النّكبات والنّكسات المستمرّة إلى يومنا هذا، حتى دخلت الآن مرحلة “الزهايمر”، والمثقف العربيّ لم يعد يتكلم عن هزائمه ونكساته؛ بل يهرب إلى ذاته ويتقوقع فيها، ولا ألومه كثيرًا، فقد وجد الشّأن العام لم يعد فيه ما يُقال، والشّاعر العربيّ يرقص اليوم على إيقاع ذاته ثملًا بمحاولاته الكثيرة للنسيان.
الأدب ذاكرة الشّعوب وديوانها الحقيقيّ؛ لذا أشعر بالقلق كثيرًا حيال ما سيتركه الأدب اليوم للأجيال القادمة، مع أنّ هناك محاولات جادة لرسم ذاكرة حقيقيّة، وهنا تتفوق الرّواية كثيرًا عن الشِّعر في هذا المجال، ويجب علىٰ المثقّف العربيّ أن يوقف سياط جَلد الذّات التي آلمتنا لعقودٍ وعقودٍ، وأن يحاول استرجاع ذاته وذاكرته والخروج مِن متاهة اليأس الذي لا يُفضي لشيء، فما زلت أؤمن بالإنسان؛ وبقدرته على النّهوض رغم كل شيء، والأدب هو الذي يقبض على “الحُلم”.. المادة الخام للحياة.
* كيف يتحول العمل الإبداعيّ لوسيلة تغيير ؟ ولماذا يفشل المثقفون في تغيير الأوطان ؟
– أظن أنّ العمل الإبداعيّ لا يحمل على كاهله مسؤوليّة التّغيير وحده، فالأدب الحقيقيّ لا يعطي الأجوبة ولكنه يطرح الأسئلة.. الأدب هو “الطَّرق على الخزان” في رواية “غسّان كنفاني”.. هو القلق؛ هو الإزعاج والأرق، أمّا التّغيير فمسؤوليّة الجميع، فلدينا أزمة أدب وأزمة قراءة.. ولكِ -سيدتي- أن تُلقي نظرة على الأمسيّات الثّقافيّة؛ ومعارض الكتب؛ وبالمقارنة مع دور اللهو والطَّرَب لنعرف أن الجواب على هذا السّؤال يدخل في نفقٍ مُظلمٍ من الأسئلة، فمَن يستهلك الأدب أصلًا ؟ ومَن يقرأ ؟ وهل الأديب مشترِك في جريمة العزوف العام عن القراءة ؟ أم هى أزمة جيل وظروف ؟ ووحش إعلاميّ كبير يأكل الأخضر واليابس من عقول شبابنا ؟
* لماذا اخترتِ الحديث عن الجَدة في قصيدة “عَكّوب”؛ وكأنّ الوطن يتمثل لك في صورتها ؟
– جدّتي رحمها الله كانت “فلسطين” مجسّدة بثيابها؛ وحديثها؛ وتقاليدها؛ وأغاريدها؛ وأهازيجها؛ وكل التّجاعيد التي أحاطت بعينيها منذ أن افتقدت الوطن منذ سبعة عقود، لم يفارقني منظرها وهي تنزع شوك “العَكوب”، ولها قُلت:
ولجدتي “العَكّوب” تطهوه و تنزع شوكه
فيعود طعم “البيت” في حلق الغريبْ
وتروّض الأشواك ترجع ذلك الشّدو النّحيبْ
كلّ الأغاريد التي قد أجهشت حدّ الأنينْ
من أين تحفظها ؟ وكيف ؟
وكلّ زيتون البلاد غدا دموعًا حين يعصره الحنينْ
ما غادر المفتاح صدر هوائها
وهي التي قد غادرت منذ اندلاع النّار في ذاك الهشيمْ
والبيت يسكنها وتبنيه رويدًا في عروق حكاية
وتعيده لو هدّمته يد السّنينْ
________________
(العَكّوب نبات شوكيّ تطهوه نساء القرىٰ في بلاد الشّام لا سيّما فلسطين).