مخدرات القضية الفلسطينية !!!
ساخر – بشير سبيل – العدد 94 ص 12
***
مخدرات القضية الفلسطينية
د بشير محمد الخضرا
لا أقصد المخدرات المادية المشتقة من مواد التخدير المعروفة كالحشيش والهيروين والكوكايين وغيرها، بل هناك مخدرات أخطر من هذه بكثير. وأخطر المخدرات هي الأفكار التي تُخدر العقول والعواطف والتفكير العقلاني العلمي الذي يمكّن المرء من معرفة العوامل الفعلية التي تؤثر على وضعٍ ما أو موقفٍ ما أو منظومةٍ معينة مما نعيشه في حياتنا الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها. وفي النهاية يتم اتخاذ القرار الخاطئ والتوجهات الخاطئة المدمرة.
فمنذ نشأنا في هذه المأساة المستمرة المعروفة بالقضية الفلسطينية عايشنا الكثير من تلك المخدرات التي تؤثر في تفكير الشعب مجموعات وأفرادا ومنظمات. وأذكر منذ طفولتي أن أول مخدر تناولناه كان بعد أن فعل الصهاينة فعلهم في ذبح الآلاف من أهالي القرى والمدن الفلسطينية ودمروا مئات القرى ليُخفوا المعالم العربية الحقيقية للوطن المُحتل، أشاعوا قضية أن الخروج من فلسطين لا يعني عدم العودة، مع نشر المخدر السّبْعي الذي يؤكد أن الغيبة ستكون لسبعة أيام أو سبعة أسابيع أو سبعة أشهر، ثم امتدت: أو سبع سنين أو سبعة عقود، وها قد انقضت السنون السبعون ونيّف ولم يذكر أحد “السبعة قرون”، ألله يستر.
المخدر الثاني هو الذي نشأ مع انبثاق ما يُسمى بحركات المقاومة المُعلنة في منتصف الستينيات من القرن الماضي، حيث كانت المقاومة تستهين بقوة إسرائيل وشبكتها الدولية (التي أسميها شبكة الشر الخماسية العالمية المتمثلة بقوى الاستعمار الغربي بقيادة الصهيونية العالمية وكل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وصنيعتهم الكيان الإسرائيلي الغاصب. والكل يعرف كم كانت الشعوب العربية متلهفة لتقبل تلك القوى الفدائية والترحيب بها واستقبالها بحرارة وانضمام الكثير من الشباب الفلسطيني والعربي والشباب من شعور تعاطف مع قضية الحق الفلسطيني. ولكن تلك القوى الفلسطينية من البداية أظهرت ضحالة في فهم القضية والأعداء والقوى الفاعلة ومعنى الدول العربية والجامعة العربية. ولذلك كانت مهلهلة التنظيم والانضباط وتسعى للتنافس في عدد الشهداء دون إنجازات. والمخدر المدمر هنا مكون من عدة عناصر: الاستهانة بقوة العدو بمعناها الدولي الشامل، والمبالغة في قوة المقاومة وما تستطيع فعله، حتى إنهم كانوا يُوحون للناس أن تحرير فلسطين “مقرط العصا، بس استنوا وشوفوا”. كما كان من العناصر الخطيرة عدم الواقعية في تقدير قوة الدول العربية وجامعتهم التي لم تكن أي واحدة من دولها تملك الاستقلال التام. وقد سمعت في منتصف الستينيات أحد كبار قادة المقاومة يقول: عندما يسيل الدم الفلسطيني على أرض فلسطين ستهب الأمة العربية لتحرير فلسطين. وشاهدت فيديو لزعيم فلسطيني آخر يقول: نحن كنا نريد فقط توريط الدول العربية في الحرب ضد إسرائيل [وقد رأينا ماذا فعل التوريط دون الاستعدادات اللازمة والتنسيق الدقيق عام 1967].
النوع الثالث من المخدرات هو “التنبؤات” الدينية المزعومة والمبنية على بعض الأقوال المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام، كتلك التي تقول ما معناه: تقاتلون اليهود أنتم شرق النهر وهم غربه، ويساعدنا كل حجر ليكشف اليهودي المختبئ، ويقول يا مسلم هذا يهودي، إلا شجر الغرقد فهو يحمي اليهود، إلخ. طبعا كان من المفروض أن المقاومة عملت على قطع شجر الغرقد في كل ساحاتنا! أو كتلك الأقوال التي تُفسر بعض آيات القرآن الكريم مثل ما ورد في سورة الإسراء “وقضينا إلى بني إسرائيل لتفسدن في الأرض مرتين.. فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم… وليتبروا ما علو تتبيرا…الآية”.
وضمن هذا السياق الديني يخرج لنا “متنبّئون” يوظفون ما يسمى بنظرية أعداد أحرف الأبجدية أو الأرقام المرتبطة بتلك الأحرف، ثم يأتون لبعض الآيات القرآنية المُنتقاة ويسُقطون الأرقام المنسوبة لكل حرف ويصلون لنتيجة أن عام ٢٠٢٢ هو العام الذي يتم فيه القضاء على إسرائيل وتحرير فلسطين… أبشروا يا عرب! إن من السهل دحض نظرية أرقام أحرف الأبجدية، وهي أسخف من أن تناقش، فليس لها أي أساس علمي أو ديني. ويكفي أن نقول إنها طريقة تعسفية وفيها الكثير من لَيّ المعاني والأرقام.
إن المؤلم في هذه “التنبؤات”، بل والاستغراق فيها أننا نرى كيف “يتنبأ” أعداؤنا بالتفكير والتخطيط وجمع البيانات والمعلومات الجاسوسية وغير الجاسوسية حول كل حياة العرب ويعملون خططا يحرصون على أن تكون نافذة، ونحن نغوص في خيالات وأوهام لا طائل تحتها. ومجرد المقارنة بين ما يُنظمون ويخططون وبين ما يفعله المُتَصدّون منا للقضية الأكثر تعقيدا في العالم تؤدي إلى الغثيان.
بالنسبة لي شخصيا، وقَعْتُ لفترة قصيرة في وهم الوعود التي تحدثت فيها قيادات فتح عن اتفاق أوسلو وعظمة فوائده للفلسطينيين، ولما درست الاتفاق وملحقاته علمت كم كان هزيمة لنا ولقضيتنا. ويكفي أنه سلّم رقاب شباب المقاومة الحقيقيين لأيادي العدو المجرم عن طريق ما يُسمى “بالتنسيق الأمني”، وهذه سابقة لا مثيل لها في التاريخ، بالإضافة إلى كل التنازلات المهينة المعروفة. وعلى الرغم من أن جريمة أوسلو أصبحت مكشوفة وعارية لدى معظم الشعب الفلسطيني والشعب العربي، فإن أوسلو ما زال يُستعمل من أبطاله كمُخدِّر قوي اعتمادا على الإيحاء بأنكم يا شعب لا تعرفون ماذا نخبئ لليهود من مفاجآت. بس استنوا علينا. وطبعا لم ينسً الناس الوعود الكثيرة لوالي السلطة الفلسطينية بأننا سوف نلجأ لمحكمة الجنايات الدولية وغيرها. وما زالت هذه المسألة في باب التخدير.
ويأتي ترامب، ويلعب بقضيتنا شأنه شأن كل الرؤساء والسياسيين الأمريكيين، ولكن بطريقة كيدية حاقدة واضحة على كل ما هو فلسطيني أو عربي أو مسلم أو ملوّن. وبعد الجولان والقدس يُعطي من لا يملك لمن ليس له الحق بإعلان قبول ضم باقي الضفة الغربية للكيان الغاصب. إن ما توحي به السلطة في هذا الشأن يُذكر بما قلناه في أعلاه عن سياسة التوريط، فما نفهمه من إيحاءات المتحدثين باسم السلطة أن الفلسطينيين “ساكتين عن ذكاء”، بس استنوا وشوفوا. ويقضي هذا السكوت بأن الخدعة التي “برشمها” الفلسطينيون للإسرائيليين هي أن يظلوا ساكتين أو “غارشين” حتى يصبح حل الدولة الواحدة هو الحل الوحيد الممكن ويتورط اليهود فيه، وعندها سيكون الحل الديموغرافي الديمقراطي هو “الخازوق لليهود” [كأن اليهود مستعدون لمنح الديمقراطية لأعدائهم الذين تعمل دولتهم الصهيونية على طردهم وقتلهم والتخلص منهم]، وهذه هي القنبلة الموقوتة التي ستقضي على كل أحلام الصهيونية! وكنت قبل عامين تقريبا قرأت مقالا في ما يُسمى ب Middle East Forum لأحد الصهاينة الإسرائيليين يقول فيه: نحن سوف لا نكتفي بإعطاء الفلسطينيين دولة واحدة، بل سنعطيهم ست أو سبع دول: دولة رام الله ودولة نابلس ودولة طولكرم ودولة جنين ودولة شمال غزة ودولة جنوب غزة. وأذكر أنه لم يكن ذكر للقدس ولا للأغوار. ومع أن التجربة مع هؤلاء، والمفاوضات العبثية بخاصة، علمتنا أن “حساب السرايا مش مثل حساب القرايا” أو “حساب الحقل مش مثل حساب البيدر”، فإن قادتنا يتصرفون على أساس أن أخلاق العربي لا تفرض عليه إلا حسن النية. وهذا جوهر ما قاله العراب ياسر عبد ربه عندما سُئل لماذا فرّطْتُم في الوطن بهذا الشكل منذ أوسلو؟ فأجاب: يا أخي شو بدنا نعمل، إحنا سوينا اللي علينا والطرف الآخر ما سوى اللي عليه! والآن صفقة القرن وزعم “توريط اليهود في الدولة المدنية الواحدة”، هل ينسجمان؟ مئة سنة ونيف مضت على كفاح الشعب الفلسطيني وتضحياته الجسيمة ولم تقرأ قياداتنا كتاب ثيودور هرتزل وغيره من عتاة الصهاينة الذين يُبَيّنون أن إخلاء الأرض من أي عربي هو من أهم أهداف الصهيونية العالمية. فكيف يتوهّم هؤلاء القادة أن اليهود سيقبلون الفلسطينيين شركاء في دولتهم المغتصِبة؟ حتى تتأكدوا يا فلسطينيون بأن “حسن الأخلاق/الهَبل” عند من يمثلونكم كانت أهم من الأرض. فهل سيكون انتظار ماذا تفعل إسرائيل إزاء ضم أراضي الضفة الغربية من خلال “صفعة القرن” آخر المخدرات في القضية؟ أم أننا سوف ننتظر حتى يتم تسليم كل فلسطين للصهاينة فيكون هو تخدير الموت؟
د بشير محمد الخضرا
Email: bashir.khadra@gmail.com