ملف المسرح الفلسطيني – الجزء الثاني
كتب : عفيف شليوط – حيفا .
المسرح الفلسطيني 1918 – 1948 – الجزء الثاني
جاء في كتاب دراسات في المسرح والسينما العربية لمؤلفه يعقوب لنداو، أنه كان للعرب الفلسطينيين تحت حكم الانتداب البريطاني مسرحًا خاصًا بهم، يشبه الى حد كبير نمط المسرح المصري في ذلك العصر. بالإضافة الى إسهامات كتاب المسرح المحليين من خلال تأليف عدد معين من المسرحيات التي طبع القليل منها فقط، وبشكل خاص ما كتبه نصري الجوزي وجميل بحري.
لكن بعد حرب 1947 – 1948 شهدت البلاد فترة ركود ثقافي شملت النشاط المسرحي، إذ أن الكثير من دعاماته غادرت البلاد مخلفة وراءها فراغًا كبيرًا ترك أثرًا سلبيًا على تطور الحركة المسرحية الفلسطينية في تلك الحقبة.
وفي هذا الفصل سأركز البحث في الفترة (1918 – 1948)، الذي يشمل كافة المناطق الفلسطينية، رغم انحصار بقية فصول الكتاب في توثيق النشاط المسرحي في الجليل، ويعود ذلك لأهمية النشاط المسرحي في تلك الفترة، والذي يشكل البدايات لمسرحنا المحلي.
لمحة تاريخية
جاء في مقالة الجوزي أنه عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وتم احتلال الانجليز لفلسطين وفرض وصايتهم عليها، كان اهتمام الناس الأساسي منحصر في ضمان لقمة العيش وسد أفواه الجياع من البنين والبنات.
“وفي الفترة ذاتها جددت الإرساليات التبشيرية من انجليزية وفرنسية وإيطالية والمانية بث الدعاية الكافية لمدارسها طالبة من الأهالي إرسال أبنائهم لتلقي العلم، عارضة عليهم أن تقدم للطلاب الكتب والدفاتر والأفلام مجانًا، وألا يتقاضوا رسومًا مدرسية كما هو الحال في أيامنا هذه، لكن معظم الأهالي كانوا يفضلون إرسال أبنائهم للعمل حتى يساهموا في نفقات العائلات الكبيرة”.*
أما الذين أتيحت لهم فرص الإلتحاق بالمدارس فالتحقوا بالمدارس الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية ومدارس المعارف التي أقامتها الحكومة المنتدبة، “وكان من أبرز المدارس الوطنية، مدرسة “روضة المعارف”، التي أسسها المرحوم الشيخ محمد الصالح بعد الاحتلال الإنجليزي، فكانت بحق وحقيق مصنعًا قوميًا يخرج الشبان الواعين من فلسطين والأردن والعراق”.*
العوامل التي أثرت على النهضة المسرحية في فلسطين
كما يؤكد يعقوب لنداو في كتابه “دراسات في المسرح والسينما عند العرب” أنه كان للمدارس الوطنية والأجنبية دورًا هامًا وأساسيًا في نشوء النهضة الفنية المسرحية في فلسطين.
وبالإضافة للمدارس أثرت الفرق المصرية التي زارت المدن الفلسطينية بين الأعوام 1925 – 1932، وما بعد ذلك، على النهضة المسرحية في فلسطين، والأندية والجمعيات الفلسطينية والإذاعة الفلسطينية التي تأسست في العام 1936، والتي أشرف على إدارتها الشاعر الفلسطيني المعروف المرحوم إبراهيم طوقان، والذي تسلم إدارتها منذ تأسيسها سنة 1936 وحتى سنة 1940. والأستاذ الأديب عجاج نويهض، الذي ساهم بشكل فعال في النهوض بالمسرح العربي الفلسطيني.
وهذا ما أكده أيضًا نصري الجوزي في مقاله (المسرح الفلسطيني 1918 – 1948)، حيث جاء فيه: “رغم مساهمة الأندية الأجنبية التبشيرية في النهضة المسرحية في فلسطين، إلا أنه مرت فترة كانت السيطة فيها للأندية الفرنسية والإيطالية التي باشرت غاياتها التبشيرية تحت اسم التمثيل، فأخذ آنذاك يرجع الفن القهقرى للأسباب التالية:
1) الهيئات المسؤولة غي تلك الأندية التابعة لمدارسها كانت لا تجيز اشتراك المرأة واعتلائها خشبة مسارحها، كما أنها كانت لا تسمح للفرق المسرحية الفلسطينية والأندية والجمعيات أن تمثل على مسارحها روايات يدخلها النصر النسائي.
2) اللغة العربية الركيكة في هذه الأندية التي لم تكن تعتنني العناية الكافية باللغة العربية بل كانت تركز اهتمامها باللغة الأجنبية التي تمت إليها تلك المدرسة.
3) ضعف الروايات أو التمثيليات المترجمة عن اللغتين الإيطالية والفرنسية، وعدم ملاءمتها لروح العصر، وتجردها من أدوار المرأة والحب”.*
وتبين لي خلال البحث أنه كان بين المدارس الأجنبية أساتذة عرب أقحاح لم يفرطوا بحقوقهم الوطنية والحفاظ على لغتهم العربية الأصلية، وفي طليعة هؤلاء الأساتذة المرحوم خليل بيدس، صاحب مجلة النفائس العصرية. وحسب ما جاء في مقالة نصري الجوزي “المسرح الفلسطيني 1918 – 1948” كان بيدس يقرر التمثيليات التي يرغب طلاب مدرسة المطران الإنجليزية في تمثيلها، وكثيرًا ما رفض موضوعات لا علاقة لها بالبيئة العربية الفلسطينية. ومن الروايات والمسرحيات التي اختارها وأشرف على تمثيلها وإخراجها بين السنوات 1924 – 1928: “السموأل” أو “وفاء الرعب” من تأليف أنطوان الجميل. وقد أضاف المؤلف على حواشيها حادثة غرامية، بطلاها عاديا (إبن السموأل) وهند بنت إمرئ القيس.
• الجوزي، نصري: المسرح الفلسطيني 1918 – 1948 (الشرق، العدد الأول، 1983).
والثانية رواية “السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم” لفرح أنطون 1914، تناول المؤلف في هذه الرواية طرفًا من حياة البطل العربي صلاح الدين حين كان يعد العدة لقهر الصليبيين في الأشهر القليلة التي سبقت معركة حطين، تلك المعركة التي أعادت للأذهان ذكرى عصر الفتوحات في صدر الإسلام.
وقد كان خليل بيدس حريصًا كل الحرص على أن يتقن الطلاب اللغة العربية قبل إتقانهم المثيل. وكان يقول لتلاميذه: “حافظوا على لغتكم العربية وتراثكم العربي، فهنالك من يحاول ان يطمس اللغة العربية والتراث العربي”.
أما مدرسة روضة المعارف فعملت على تربية نشئ عربي مؤمن بعروبته، فمن الروايات التي قدمتها هذه المدرسة “عبد الكريم الخطابي”، وهي رواية وطنية تندد بالاستعمار البريطاني وتظهر بكل وضوح بطولة عبد الكريم والدروس الوطنية التي لقّنها للغرب. وقد أثارت هذه التمثيلية غضب السلطات المحلية والإنجليزية التي كانت تحب أن تخنق الأفكار النيرة بيدها. عرضت هذه المسرحية حوالي سنة 1927 – 1928.
وجاء في كتاب “دراسات في المسرح والسينما عند العرب” ليعقوب لنداو أن للفرق المصرية كما سبق وذكرت الأثر الكبير على تأسيس الأندية والجمعيات الفلسطينية، وتجيب فن التمثيل الى عدد كبير من الشبان الطامحين في المجد والمسرح. ومن الفرق المصرية التي كان لها التأثير الأكبر على الشبيبة العربية في فلسطين بين السنوات 1925 – 1932 فرقة “جورج أبيض”، التي قامت بتمثيل “لويس الحادي عشر”، والتي قام بترجمتها شاعر القطرين خليل مطران، و”أوديب” التي ترجمها فرح أنطون عن سوفوكليس، و”الشيخ متلوف” التي كتبها عثمان جلال عن فكرة مسرحية “طرطوف” لموليير.
كما كان لفرقة “رمسيس” التي أسسها عميد المسرح العربي يوسف وهبي في العام 1923 الأثر الكبير على الحركة المسرحية في فلسطين. من الروايات التي غرضتها فرقة “رمسيس” في المدن الفلسطينية الرئيسية: “انتقام المهراجا”، “أولاد الذوات”، راسبوتين”، “العدالة”، “القاتل”، “سر الاعتراف” وهي من تأليف يوسف وهبي أو اقتباسه.
ومن أبرز الممثلين الذين رافقوا يوسف وهبي في جولاته: حسين رياض، روز اليوسف، زينب صدقي، أحمد علام، فاطمة رشدي، أمينة رزق وعزيز عيد.
من ضمن المسارح المصرية التي أثرت على النهضة المسرحية في فلسطين فرقة نجيب الريحاني، الذي اقتبس مسرحيات عديدة عن موليير في بادئ الأمر، ثم ما لبث أن خلص الى مرحلة أساسية من الخلق الذاتي بالاشتراك مع أمين صدقي وبديع خيري.
وكان لشخصية الريحاني التأثير الكبير على محبي الملهاة. ومن الملفت للنظر أن عددًا من الممثلين الفلسطينيين كانوا يقلدون يوسف وهبي، جورج أبيض، عزيز عيد، أحمد علام، أمينة رزق وغيرهم.
على اثر قيام المدارس الوطنية والأجنبية دب الحماس في رؤوس الشبان وأخذوا يؤسسون الأندية والجمعيات الأدبية والتمثيلية، حيث أدخلت هذه المدارس في برامجها الفن التمثيلي بهدف تعرف الطلاب على كبار الكتاب المسرحيين العالميين مثل وليم شكسبير وموليير.
كما كان لقدوم الفرق المسرحية المصرية الى المدن الفلسطينية الرئيسية مثل: القدس، يافا، حيفا، عكا، الناصرة، غزة وبيت لحم الأثر الكبير على هواة المسرح في فلسطين، ودب روح الحماس لديهم للنهوض بالمسرح الفلسطيني.
ولقد تسنى لي الإلتقاء بشخصين واكبا فترة قدوم الفرق المصرية البلاد، الأول نصر عودة من مدينة الناصرة، وهو ممثل شاك في التمثيل بمسرحيات ضمن نادي النهضة الناصري، حدثني نصر عودة أنه في العام 1946 نزل الممثل المصري يوسف وهبي في فندق الجليل في الناصرة لكي يعرض مسرحياته في مدينة الناصرة.
كما سرد لي صالح الفحل من مدينة عكا قصة طريفة، وهي كيف تسنى له أن يشارك بالتمثيل في مسرح “رمسيس” “جنبًا الى يوسف وهبي، عندما زار عميد المسرح العربي مدينة عكا ليقدم عروضه المسرحية فيها.
كيف مثل صالح الفحل، إبن مدينة عكا، في مسرح يوسف وهبي
عاد بنا صالح الفحل بذاكرته الخصبة الى العام 1937، حيث كان عميد المسرح العربي الفنان يوسف وهبي بحل ضيفًا على مدينة عكا في فصل الصيف، ليعرض في مسرحيته المشهورة “كرسي الاعتراف”، ومسرحية “الجندي الهارب”.
وصادف أن كان الفحل في هذه الفترة يعمل مساعدًا لصاحب صالة سينما التي سيعرض فيها يوسف وهبي مسرحيته، وهي سينما الأهلي (اليوم بناية بنك لئومي) في عكا. وعندما كان صالح الفحل يجهز الإضاءة على المسرح قبل عرض المسرحية، صاح بجملة كان يحفظها من أحد الأفلام السينمائية بشكل تمثيلي بهدف المداعبة. وما ان سمعه مدير المسرح حتى سأله إذا كان يود ان يمثل فقال نعم، ودخل على يوسف وهبي الذي سيمثل دور الكاردينال.
ويضيف صالح: “سألني الفنان الكبير يوسف وهبي تريد أن تمثل، فقلت نعم. طلب مني أن أجثو على ركبتي لتأدية دور الراهب، ففعلت. وقال يوسف وهبي لمدير المسرح أعطه جنيها فأعطاني. وقدمت العرض ونجحت نجاحًا باهرًا وكان الناس بين مصدقين وغير مصدقين”.
أما في الليلة التالية فطلب منه عميد المسرح العربي أن يشترك في تمثيل مسرحية “الجندي الهارب”. ومن الطريف أنه عندما جلس صالح على خشبة المسرح كان من المفروض أن يشرب الخمرة، وفي أثناء عرض المسرحية كان أحد المشاهدين من أهالي عكا يجلس في الأماكن الامامية للصالة، وعندما رآه يشرب الخمرة قال له “سأخبر والدك أنك تشرب الخمرة”، فقال له صالح في أثناء العرض “هذه شاي”. وبعد انتهاء العرض سأله يوسف وهبي لماذا فعلت ذلك فأجابه حتى لا يضربني والدي.
وفي اليوم التالي وبّخه والده قائلاً: “مس عيب عليك تمثل يا صايع”، فأجابه صالح “هذا يوسف وهبي أبوه باشا يابا”.
ويحدثنا صالح الفحل عن طواف يوسف وهبي في كل عام البلاد بهدف عرض مسرحياته. وكان يزور المنطقة مصريون ولبنانيون ويقدمون أعمالهم الفنية لأهالي عكا. ويؤكد صالح الفحل بأن يوسف وهبي كان يستقطب أكبر عدد من الجماهير، لأن مسرحه كان رصينًا، جادًا وزخمًا، نسبة للأعمال المسرحية الأخرى التي كانت تعرض في تلك الحقبة التاريخية، والتي كان يعرض قسم منها في الملاهي.
كما ذكر لي صالح الفحل اسم علي الكسار (عميد الكوميديا في مصر بتلك الفترة – على حد تعبيره)، والذي كان يقدم عروضه المسرحية الهزلية في عكا، وكان يطوف المدن العربية الأخرى في فلسطين. ومن الغريب أن الناس حسب أقوال صالح الفحل كانوا يفضلون مسرح يوسف وهبي الجاد، عن مسرح علي الكسار الكوميدي، عكس ذوق الجمهور اليوم الذي يفضل على الغالب المسرحيات الكوميدية.