كتب: د. بشير محمد الخضرا
خاص – ساخر سبيل
إن من يتابع الحركات الإسلامية وبعض الدعاة والخطباء، المقيمين في الوطن والمقيمين في المُغَترَب الغربي، يجد أن بعضهم مشغولون بقضايا يعتبرونها من أهم المشكلات التي “تعاني منها الأمة”، وهي في الواقع لا تخصنا بل هي جزء من الانحراف عن الأهداف الأساسية لإنها مُختلقة من قوى لا تريد لنا أي خير. فمثلا، قضينا والأسرة فترة في استضافة إحدى الجامعات الأمريكية، وكان في الحي الذي أقمنا فيه عدد من الشباب العرب الذين يُقيمون هناك مع أسرهم ويدرسون دراسات عليا، وتبين من الأحاديث أنهم ينتمون إلى حركة إسلامية معينة. وقد التقينا معهم أكثر من لقاء، وكانت أحاديثهم متركزة على علاقة المسلمين بالمسيحيين. وكانت من القضايا التي كثيرا ما يتناولونها: هل يجوز أن تُهنئ المسيحي بأعياده الدينية، وأن تزوره في بيته، وأن تأكل عنده، وغير ذلك من الأسئلة ضمن هذا الإطار الضيق. أما قضايا الفقر والأمية وتخلف الثقافة واحتلال الأوطان والفساد المالي والظلم وعلاقة كل ذلك بالتنمية، فلا مجال لمناقشتها، ولو نوقشت فلن تعالج إلا من منظور غيبي لا يؤدي إلى نتيجة عملية. وهذه الاهتمامات لا تدل سوى على الوقوع تحت مؤثرات دخيلة على ثقافتنا العربية الإسلامية، وعلى عدم فهم الإسلام، وعلى الانغلاق الإنساني الذي يتعارض مع طبيعة الإسلام. وكان من الشائع لديهم الاستدلال بفيديوهات للشيخ أحمد ديدات في حوارات مع “دعاة مسيحيين” حول الدين المسيحي، وبخاصة البحث عن سؤال أي الديانتين أصح من الأخرى. وقد شاهدنا الأمثلة العديدة من هذه التوجهات في الأردن وبعض البلاد العربية الأخرى. وقد كتب معالي الوزير السابق محمد داوودية أكثر من مرة في تباعد زمني ملحوظ عن مظاهر لهذه التوجهات في خطب الجمعة في الأردن، ولكن أي استجابة أو تعديل إيجابي في السلوك لم تتحقق على أرض الواقع مع الأسف.
أن طرح هذه المسائل المُقحَمة على قضايانا يعاني من مشاكل عديدة أهمها مشكلتان رئيستان: أولاهما أن هذا الطرح يتجاهل نصوصا أساسية في الدين الإسلامي ويُحَمِّلُ الدين تبعاتٍ باطلة، وثانيا: تصب هذه التوجهات في مصلحة الحركات الصهيونية التي استطاعت أن تجعل الكثير من المسيحيين في الولايات المتحدة بخاصة مقتنعين بوحدة الديانتين اليهودية والمسيحية، حيث اخترع “المفكرون” الصهاينة اصطلاح “المدنية اليهودية-المسيحية (Judeo-Christian Civilization)، واصطلاح “العهد القديم” والعهد الجديد” (Old Testament and New Testament) عن التوراة والإنجيل، ومن ثَمّ، وحدة واندماج المسيحيين واليهود، وتميز هاتين المجموعتين عن المسلمين والعرب بالذات كثقافات غير متجانسة.
بالنسبة للمشكلة الأولى المتعلقة بالنصوص الإسلامية المُعتبِرة والمُقدِّرة لمكانة السيد المسيح وأمه السيدة مريم والدين المسيحي، هنالك العديد من الشواهد المشرقة في القرآن الكريم. فأيّ مطلع يلاحظ أن مجيئ السيدة مريم لهذا العالم كان حدثا برعاية إلهية منذ أن بدأ تكوينها بأن أمها المشهود لها في القرآن بصلاحها (امرأة عمران) نذرتها في سبيل الله وأن الله استجاب لدعائها وقبلها وباركها بإرادته حيث سخرها لأمر عظيم: “إذ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ الله يرزق من يشاء بغير حساب (آل عمران: ٣٤-٣٧). ثم يبين القرآن أنّ الله أعطاها مكانة لم تصل إليها أي من نساء العالمين (بمن فيهم زوجات النبي وبناته): “وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ”﴿۴۲ آل عمران﴾. ثم لما شاءت الإرادة الإلهية تكليفها بالمهمة العظيمة أعلمها جل جلاله بما سخرها له كما جاء في القرآن: ” إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ” ﴿ آل عمران، ٣٥﴾. وتبين السورة القرآنية التي جاءت باسم مريم والتي تعتبر من السور الطويلة (سورة مريم) المراحل الكاملة التي مرت بها السيدة مريم من حمل ومعاناة وحرج ومواجهة لأذى الناس مع رعاية الله لها ولوليدها الذي كلم الناس في المهد وأنبأهم عن المهمة الربانية التي أوكلت إليه ومكانته العظيمة عند المولى. أما السيد المسيح وحياته ورسالته ومعجزاته بإرادة الله فجاءت في أفضل الأوصاف بالعشرات من السور والآيات، وبخاصة في سورة مريم بلا لبس أو غموض.
ولم يقف الوصف عند هذا الحد، بل إن القرآن تطرق أكثر من مرة للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين، أولا بوصف المسيحيين بالمؤمنين وبأنهم الأقرب مودة للمسلمين للصفات التي تذكرها الآية التالية: “لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ(82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
بل إن في القرآن سورة اسمها “سورة الروم” التي تبدأ بالآيات: “ا ل م. غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ”(الروم، 1-4). وللتوضيح، باختصار شديد، نقول انه في فترة نشوء الإسلام، حدثت حرب بين الروم والفرس وانتصر الفرس على الروم، فرح العرب الوثنيون وحزن المسيحيون والمسلمون، لأن الروم كانوا أهل كتاب (مسيحيين)، فجاءت السورة توضح هذه الحالة وتًعٍد بوعد قريب ينتصر فيه الروم على الفرس ويومئذ يفرح المؤمنون (المسيحيون والمسلمون) بنصر الله. وهناك الكثير من الآيات التي تشير إلى السيد المسيح ودعوته بوصفها رسالة موحى بها من الله. على ضوء هذه الآيات، وغيرها كثير في القرآن الكريم مما لا مجال للتوسع فيه هنا، نتساءل: كيف يُشغل بعض المسلمين عقولهم بالأسئلة البعيدة عن روح الإسلام ونصوصه وممارساته، فبدل أن يوضحوا للمسيحيين في الغرب الحضور المسيحي القوي في نصوص القرآن والتقارب الروحي بين المسلمين والمسيحيين، يُلحون في طرح تلك الأسئلة التي لا تهدف إلاّ إلى نقور الغربيين من الإسلام، عدا عن خلق الفرقة ضمن شعوبنا. وهذا يقودنا إلى النقطة الثانية في حديثنا كما قدمت، وهي أن هؤلاء الدعاة، عن وعي أو عن غير وعي، يقعون في الشَّرَك الذي نصبه الصهاينة حيث يتطابقون مع مصلحة الصهاينة الذين يستفيدون من حملات الفرقة بين المسلمين والمسيحيين في بلادنا ويحولونها إلى علاقات قوية بين اليهود/الصهاينة والمسيحيين ما يعزز ادعاءاتهم بعداوة الإسلام لهم معززين توحيد اليهودية والمسيحية، ليس على المستوى الديني فقط، بل على المستويين الاجتماعي والسياسي، أي النفوذ في المجتمع الأمريكي بخاصة والمجتمعات الغربية بعامة، واستعداء العرب والمسلمين.
***
د. بشير محمد الخضرا
bashir.khadra@gmail.com