شلبكيات

عابر سبيل العدد الشهري 150-ص4

عابر سبيل لهذا العدد هي السيدة دينا الشيخ والعبور بعنوان: سُكّر في كوب يومها - العصافير لا تكبر أبدًا.

عابر سبيل لهذا العدد هي السيدة دينا الشيخ من هاملتون انتاريو والعبور بعنوان: سُكّر في كوب يومها – العصافير لا تكبر أبدًا.


****
يوم السبت الماضي 22 فبراير، كان يومًا مرهقًا وطويلًا، بالكاد أحاول أن أكمله دون أن أندم على ضياع الوقت في شيء لم يكن في مخططي. الوقت الذي أسابقه كل يوم لأنجز شيئًا ولو ضئيلًا من القائمة التي لا أرى نهاية لها، لا في رأسي ولا على الورق. أقنعتُ نفسي بالخروج رغمًا عن البرد الشديد والثلوج التي غمرت سيارتي ككل السيارات في الشارع الذي بدا ناصع البياض وأنا أحاول تغطية عينيّ وتضييقهما لأقلل من كمية الضوء المنعكسة من خارج النافذة والساقطة على وجهي الذي تبدو عليه آثار النوم والكسل بعد غفوة سريعة بعد الثانية ظهرًا. سأحتاج عشرين دقيقة لتدفئة السيارة وإزالة الثلوج عنها. ١٤ درجة تحت الصفر وأنا أضع طبقات وطبقات من الملابس حتى لا يتسلل البرد إلى جلدي الذي نشأ في قلب إفريقيا الحنون الدافئ، وتشرّب السمرة من شمسها الحارقة التي أشتاق كثيرًا لأن أشتكي منها ومن سخونة الجو في صيفها الخانق. أشتهي شمس الصباح في السودان وهي تداعب وجهي بأشعتها الذهبية الرقيقة وأنا أتلذذ بسماع العصافير على الأشجار وهي تعد خطة شقية ومليئة بالمغامرات والتحليق العفوي. أحيانًا… أحس وكأن العصافير لا تكبر أبدًا بعد نمو ريشها وتعلمها الطيران، لا أستطيع تحديد أعمارها بسهولة. عندما أسمع زقزقتها مع طلوع الفجر، أشعر بسعادة طفولية، تجعل جسدي يطفو ويسبح بخفة ورشاقة فوق بحيرة الوقت. أشعر وكأني ألقيت بحمولة يوم مضى إلى الريح، وأبدأ بالاستعداد للخروج إلى العالم بقلب يقفز طربًا وأعلم ساعتها أني سأضبط إيقاع اليوم وأولوياته بحرفية بالغة، فأكثر ما أحرص عليه ككنز ثمين وصلت إليه منذ زمن بعد: هو التحكم في مزاج يومي في أوله.
فكرت في الغناء الذي تفتتح به العصافير يومها.. وأنا أحاول تفسير ما تقوله العصافير لبعضها البعض.. تذكرت الثلوج التي تقبع في طرقات هاملتون لأيام معدودة دون أن يبدأ الثلج في الذوبان، بل يتراكم كل يوم بشكل تدريجي، كأنه يعد لخطة ما.
نفضت كل حميمية الدفء التي لا توجد إلا في ذاكرتي وقررت بشجاعة أن أتخلى عن رغبة البقاء في البيت وأن أخرج لمواجهة واقع الثلاجة في شوارع هاملتون.
دخلت المتجر الذي أشتري منه بعض احتياجات البيت في نهاية كل أسبوع، هذه المرة لم يكن لدي رغبة في التسكع داخل المتجر الضخم كما أفعل في بعض الأحيان. بسرعة وصلت إلى آخر كلمة في القائمة الأسبوعية للمشتريات.
وأنا أحاول اختيار أحد نقاط الدفع قبل الخروج، في أغلب الأوقات أتخير رقم “الكاشير” حسب الشخص الذي به. نظرت فوجدت خانة فارغة، ولكن السيدة التي بها لا أرغب في التعامل معها عادة، بيد أني كنت مضطرة للتعامل معها. ذهبت وبدأتُ في تفريغ ال ” كارت” دون أن تلقي السيدة (تقريبًا ٥٤-٥٦ عامًا) عليّ التحية أولًا كما هو متعارف عليه كوسيلة لجذب الزبائن بشكل يجعلهم يستلطفون المكان فيعودون إليه بشكل مستمر. نظرتُ في وجهها وقد بدت مشغولة ومتوترة وكأن جسدها شبح بلا روح. قررتُ أن أبدأ الحديث معها وأن أترك سُكّرًا في كوب يومها الذي يبدو فارغًا من أي شيء يدعو للابتسامة. كانت أهدابها طويلة بشكل لافتٍ جدًا، حقيقة لم أر مثلها في حياتي. رشقتها بنظرات خاطفة وقلت لها: رموشك! فقالت: ماذا قلتِ؟ فقلت: هل رموشك حقيقية وغير مستعارة؟ وقبل أن تجيب على سؤالي، ذاب كل الثلج الذي خشّب ابتسامتها وكُسر الحائط الرمادي السميك الذي كانت تخفي روحها خلفه، عادت كطفلة في الصف الرابع الابتدائي… تقفز وتتأرجح في حديقة الحي دون الاكتراث بالعالم وما فيه. قالت نعم، ثم بدأت تخبرني بمرح عن ابنها وابنتها وكيف أن هذا شيء وراثي في العائلة، وانطلقت في الحديث كغيمة منهمرة كأنها لم تتحدث لأعوام. أحبَّتْ أن تواصل الحديث معي أطول ووقت ممكن ومستطاع عند ال “كاشير”. غادرتُ ونظراتها تصحبني بابتسامة رقيقة إلى باب المتجر، وكأني أعدتُ لها شغفًا قديمًا، وكنزًا عظيمًا غطّتهُ سنواتُ العمرِ وثلوج كندا.
***

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
إغلاق
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock